أ. محمد طاهر مسعود الدباغ
السيرة الذاتية
النشأة والمولد
“محمد طاهر مسعود الدباغ” -تربوي سعودي من مواليد مكة، وقيل الطائف، وذلك في (1897م- 1966م- الموافق 1308ه- 1378ه)، ويعد “الدباغ” من أعلام النهضة التعليمية، وأحد زعامات النخب الوطنية في الحجاز، ومن أبرز رواد ومؤسسي التعليم النظامي بالجزيرة العربية.
وتبدأ مسيرته التعليمية وكفاحه ورغبته في التعلم عندما تلقى تعليمه الابتدائي في الحرم المكي ثم أكمله بمصر، ثم عاد إلى مكة المكرمة وواصل تعليمه على يد عدد من علماء عصره من شتى أقطار الدول الإسلامية بالحرم المكي، حتى نال إجازة التدريس عام 1333ه، وكان قد حصل على الشهادة الابتدائية عام 1324ه، ومن أبرز منجزاته -رحمه الله- تحديث التعليم وتطوير المناهج وتوحيد إطارها العام وافتتاح مدرسة تحضير البعثات، وتعديل وتطوير التعليم تدريجياً في كافة مراحلة، واستقدام المؤهلين من الخارج، بالإضافة إلى تأسيس نواة الحركة الكشفية بالمملكة.
ما قبل توحيد المملكة
قبل توحيد أقاليم البلاد وتأسيس المملكة اختير السيد “محمد طاهر الدباغ” ليكون أميناً عاماً وسكرتيراً للحزب الدستوري الحجازي الوطني بجدة، برئاسة الشيخ “محمد الطويل”، وكان “الدباغ” أحد مؤسسي الحزب الذي تشكّل بعد عام 1343ه، حيث شهدت هذه الفتره تداعيات وتجاذبات سياسية بعد الحرب العالمية الأولى، وقد كان السيد “الدباغ” من أبرز زعامات النخب الوطنية في الحجاز، وبصفته سكرتيراً عاماً للحزب، ونتيجة للاضطرابات الأمنية في الحجاز فقد قرر الحزب تنحية “الشريف الحسين” -رحمه الله- عن الحكم سلماً من خلال تنازله عن الحكم لابنه “علي”، ووجد أعضاء الحزب صعوبة بالغة في إبلاغ “الشريف” -رحمه الله- بقرار التنازل واعتذر الكثير من الأعضاء بالقيام بهذه المهمة الحسّاسة، فبادر السيد “الدباغ” بإخبار “الشريف الحسين” بقرار الحزب، وقد تردد “الحسين” في بداية الأمر، ولكنه رجّح المصلحة العامة ووافق فيما بعد لتسليم السلطة إلى ابنه “الشريف علي”؛ إثر ذلك أصدر “الدباغ” بياناً في الخامس من شهر ربيع الأول عام 1343ه وجهه للعالم الإسلامي ونشرته الصحف المصرية.
شهادة ولي العهد
في عام 1427ه أقامت جامعة أم القرى بمكة المكرمة حفلاً تكريمياً للراحل السيد “محمد طاهر الدباغ” وسط حضور لافت، سُلط فيه الضوء على لمحات من سيرته العلمية والعملية ومشاركته الفاعلة في بناء مؤسسات الدولة، كما خصص صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد في محاضرته التي ألقاها يوم السبت21/3/1429ه بجامعة أم القرى عن حياة والده الملك عبدالعزيز في مكة المكرمة، جزءاً من المحاضرة عن أعمال وجهود السيد “محمد الدباغ”، وأوضح من خلال المحاضرة سياسة الملك عبدالعزيز في التعامل مع معارضيه إبان مرحلة التوحيد وبناء الدولة، حيث كان يعاملهم بإنسانية وكرم، ويترجم ذلك أن المؤسس -رحمه الله- وضع ثقته فيهم؛ إذ أسند إليهم مناصب قيادية في مجالات الإدارة والتعليم والجيش والمال والتشريفات وغيرها، واستشهد سموه ب”محمد طاهر الدباغ” الذي كان أحد أفراد حكومة الشريف حسين -رحمه الله-. ولأن السيد “الدباغ” كان صاحب نشاط سياسي قبل توحيد المملكة فقد التحق حين خروجه من الحجاز بحزب الأحرار الذي كان مقره خارج المملكة، إلاّ أن الملك عبدالعزيز استطاع بحكمة منه أن يحل هذا الحزب ويستقطب معظم أبنائه ويعيدهم لبلاهم ويمنحهم جميعاً المناصب الرفيعة؛ ليساهموا هم وأبناءؤهم في وحدة البلد، وبناء مؤسساته. وكان “الدباغ” قد خرج من البلد بعد مبايعة أهالي الحجاز الملك عبدالعزيز، حيث غادر هو وبعض الأعيان إلى بلاد متفرقة، وعبّر بعضهم عن رؤاه السياسية وأفكاره عبر الصحف الأجنبية، إلاّ أن الملك عبدالعزيز أصدر عفوه العام عن جميع أبناء البلد في كافة أقاليمه، لا سيما الذين كانوا في الخارج، وطلب منهم العودة إلى بلادهم معززين مكرمين، وأن بلادهم بحاجة إليهم، وحينها عاد كثير من أبناء الوطن بعد مراسلات مع الملك عبدالعزيز تحدثوا عنها في مقالاتهم ومذكراتهم، وكان من بينهم السيد “محمد الدباغ” الذي استقبل الملك عبدالعزيز طلبه بالترحاب، بل التقى به الملك عند وصوله، وقال له: “أنا أحملك اليوم مسؤولية تعليم هذا الشعب؛ فأرني كيف تعلمه”، وأسند إليه مهمة المعارف، حيث أصدر الملك عبدالعزيز في محرم 1355ه مرسوماً ملكياً بتعيينه مديراً عاماً للمعارف في المملكة.
مدير تعليم مكة
وإثر عودته من الخارج عُيّن على منصب مدير عام للتعليم من مقر الإدارة العامة بمكة في دار الحكومة بالحميدية، وقد عمل -رحمه الله- على نشر التعليم النظامي في جميع مناطق المملكة وأطرافها؛ فافتتح المدارس الابتدائية النظامية في نجد، وشمل ذلك القصيم وشقراء ثم بادية الحجاز، وحائل والأحساء والجنوب، كما عمل على تعديل المناهج الدراسية وتطويرها، ودعم المعهد العلمي في مكة؛ لكي يتخرج منه المدرسون والقضاة، هذا قبل أن ينشئ مدرسة تحضير البعثات في مكة، وهي أول مدرسة ثانوية نظامية، تؤهل الخريجين، وتمنحهم فرصة استكمال التعليم الجامعي التقني والمتخصص عبر الابتعاث والدراسة إلى جامعات مصر. وللحقيقة فقد اضطلع هؤلاء الخريجون من هذه المدرسة بمهام جسيمة وكبيرة في بناء الدولة، فكان منهم الوزراء والأدباء ورجال الجيش والأمن وكبار موظفي الدولة السعودية وكوادرها المتخصصة الأوائل، الذين سعد الملك عبدالعزيز ومن بعده أبناؤه بهم ومنحوهم المناصب العليا، كما منحوا السيد “الدباغ” مزيداً من الدعم لتطوير قطاع التعليم بكافة أقاليم بلادنا الواسعة والتي كانت آنذاك تعاني من الأمية وندرة المدارس والمعاهد الرسمية وحتى الخاصة.
مدير المعارف
ظل ارتباط السيد “الدباغ” بقطاع التعليم يمثل تحدياً مع الذات، حيث ندرة الإمكانيات وكبر المسؤوليات، ولذا فقد مُنح -رحمه الله- كامل الصلاحيات في شأن تأسيس ومن ثم تطوير التعليم في كافة أقاليم المملكة.
وقد تناول الشيخ “عبدالرحمن بن عمر بن عبدالرحمن خياط” مسيرة الشيخ “الدباغ” العملية، فقال:”عيّنه جلالة المؤسس -طيب الله ثراه- مديراً للمعارف، وفي عهده نشطت فكرة الابتعاث، ثم فكرة استقدام الأساتذة من مصر، وأول بعثة قدمت من مصر أربعة مدرسين ورئيس هو الأستاذ محمد رشوان عام 1375ه -رحمه الله-، واحتفلت بهم المعارف في بهو فندق مصر بأجياد، وحضر الحفل كبار رجالات الدولة، وألقيت الكلمات الترحيبية بالوفد، ثم ألقى رئيس الوفد كلمته التي كرر فيها (جئنا لتعليم أبناء مكة)، وهكذا كان عهد السيد محمد طاهر الدباغ عهد تأسيس وعمل، وكان كل أساتذة المعهدين من المكيين، وأضيف إليهم تلك الصفوة من مصر العزيزة“.
مدرسة تحضير البعثات
عمل السيد “الدباغ” منذ استلامه منصبه مدير عام المعارف بمكة المكرمة على نشر التعليم النظامي في جميع مناطق المملكة وقراها، من خلال افتتاح المدارس الابتدائية النظامية، إضافة إلى إنشاء مدرسة تحضير البعثات بمكة التي هيأت الطلاب إلى الابتعاث للدراسة في الخارج، وكان “الدباغ” -رحمه الله- سابع من تولى إدارة المعارف في العهد السعودي بعد كل من السيد:(صالح شطا، الشيخ كامل القصاب، الشيخ ماجد كردي، الشيخ حافظ وهبة، الشيخ محمد أمين خوجة، الشيخ ابراهيم الشوري) -رحمهم الله جميعاً-، وبعد فترة السيد “الدباغ” كان فضيلة الشيخ “محمد بن عبدالعزيز بن مانع”، وبعده تحولت مديرية المعارف إلى وزارة، وكان أول وزير لها صاحب السمو الملكي الأمير “الملك” فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-.
ومع اهتمام السيد “محمد طاهر الدباغ” بمجانية التعليم، إلاّ أن دوره في نشر المدارس والمعاهد الأهلية كان واضحاً، حيث التنوع في المدارس وتخفيف الضغط على المدارس الحكومية، من خلال التحاق أبناء الميسورين في تلك المدارس الأهلية، وترك الفرصة لأقرانهم للالتحاق بعامة المدارس الحكومية، بل لقد ساهم حين شبابه -رحمه الله- في دعم التعليم الأهلي، من خلال التحاقه بالتدريس بمدرسة الفلاح بالحجاز، ثم أنه عُيّن مديراً لها، وذلك نظير جهوده الدؤوبة وكفايته وإصراره على تطوير المدرسة ونشر المعرفة، وقد كانت مدرسة الفلاح تضم كبار الأساتذة والمدرسين، بل وخرّجت جيلاً من الأدباء والمفكرين الذين ساهموا في إثراء الساحة الأدبية والفكرية آنذاك، من خلال المؤسسات التعليمية والإعلامية، إضافة إلى العديد من رجال الدولة المرموقين في مراحل التأسيس. وتعود فكرة إنشاء المدرسة إلى رغبة التاجر المعروف “محمد زينل”؛ لنشر التعليم ومكافحة الجهل والأمية في بلاد الحرمين الشريفين مطلع العشرينيات من القرن الماضي، وقد ساعدته في ذلك زوجته السيدة “خديجة عبدالله زينل”، ويذكر بعض الباحثين أن السيدة “خديجة زينل” قدّمت حليها ومصاغها لشراء مبنى المدرسة وتمويلها.
في أندونيسيا
يذكر الأديب “عمر عبد الجبار” -مؤسس مدرسة الزهراء بمكة المكرمة- في حديث له عن السيد “محمد بن طاهر الدباغ” أنه “بعد مغادرته البلاد استقر في مدينة (يايوواغي) في جاوا مدة خمس سنوات ثم غادرها وأسرته؛ بسبب الاستعمار الذي أطبق على أندونيسيا، وخلال فترة تواجده ب(جاوا) أُسندت إليه إدارة إحدى المدارس العربية هناك، ولم يكتف السيد الدباغ بمناهج التعليم التقليدية الموجودة، بل قام بإضافة ألوان أخرى إليها من النشاط المدرسي كفنون الخطابة والإلقاء والمسرح والصحافة والرحلات”، ويشير الأستاذ “عمر عبد الجبار”، قائلاً: “كنت إذ ذاك في عام 1350ه وضعت كتباً مدرسية للمدارس العربية في اندونيسيا تتمشى مع رغبتهم وبيئتهم؛ فلقيت من السيد محمد طاهر الدباغ كل تشجيع ما حفزني إلى متابعة التأليف والنشر والطبع ومثله من يقدر ويشجع على ما فيه الصالح العام”. ويتابع:”إن السيد الدباغ حثني على العودة للمساهمة في خدمة البلاد فعدت إلى مكة في عام 1355ه، وزرت السيد الدباغ في بيته المتواضع فوجدته قوي الأمل في الله ثم في الملك عبدالعزيز لنشر العلم والثقافة ومحاربة الأمية وإنشاء جيل قوي الإيمان فأدخل تحسينات مهمة على المعهد السعودي، وكان من أسمى أعماله وحسناته تأسيس مدرسة تحضير البعثات التي أنجبت شباباً ابتعثوا إلى البلاد العربية فارتووا من مناهل جامعاتها وقطفوا ثمار علومها، ثم عادوا إلى وطنهم فكان منهم الطبيب والصيدلي والقاضي والمدرس والمهندس والصحفي والمحقق“.
أولويات وأسبقية
كان للسيد “الدباغ” أولويات انفرد بها عن من سواه، فقد ذكر “د.عبدالرحمن بن علىي الزهراني” أن السيد “الدباغ” -رحمه الله- كان هو أول من عدّل المناهج الدراسية وطوّر طباعاتها ومضامينها، وهو أول من دمج المرحلة التحضيرية والابتدائية بمرحلة واحدة لتصبح ست سنوات، وهو المعمول به إلى الآن، كما أنه عُني بتأسيس مدرسة البعثات بمكة المكرمة في محرم عام 1356ه، وهي التي تعد أول مدرسة ثانوية بالمملكة، كما عمل على توسيع وتنظيم مدرسة الأمراء بالرياض، وإثر هذه الجهود البارزه تم تعيينه عضواً بمجلس الشورى من عام 1365-1371ه، واستمر -رحمه الله- في خدمة بلاده، إلى أن توفي في الثامن عشر من شهر رجب عام ألف وثلاث مئة وثمان وسبعين في القاهرة، حيث نقل إليها في آخر أيامه للعلاج، وهناك دفن -رحمه الله رحمة واسعة-.
المصدر: